علم الغيب
الغيب،
هو ما خلف المنظور، ابسط تعاريف الغيب، فعلم الغيب اذاً بواقع الحال هو العلم بما خلف المنظور، وحسب الاعتقاد السائد لدى المسلمين بان علم الغيب المطلق لا يعلمه الا الله، وهذا ما اتفق المسلمون عليه بلا نقاش، ولكن دون ذلك، هل يعلم الناس بعض الغيب؟ وهل علم الغيب كسائر العلوم الأخرى كالرياضيات والفيزياء ونحوها؟
لنبحث في بعض آيات القران الكريم حول الغيب، ونبدأ بالآيات التي تنفيه عن غير الله:
• ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ))
• ((وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ))
• ((قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ))
• ((ولا أقول لكُم عندي خزائنُ اللهِ ولا أعلمُ الغَيب))
في هذه الآيات الكريمة، يظهر بوضوح ان الله تعالى لديه علم الغيب ولا يعلم هذا العلم الا هو وحده، وحتى قول رسوله للناس بانه لا يعلم الغيب، فالغيب كمعلومة من الزمن الماضي او الزمن الحاضر او معلومة عن المستقبل، علمها عند الله وحده، وهو الذي ان شاء علمنا من هذا الغيب وان شاء منعه عنا.
لو قلنا حسب المعطيات أعلاه بان الغيب بشكله المطلق او الجزئي لا يعلمه الا الله تعالى،
كما هو الحال في عدم معرفتنا لنوح ع وانه صنع سفينة ونجا بها وبعض المؤمنين من العذاب والغرق، لولا انه تعالى كشف لنا عن هذه المعلومة الغيبية، ولذلك فنحن لا نعرف لون قميص يوسف ع الذي رموه على يعقوب ع ليرتد بصيراً، وكم زر فيه، وهل مصنوع من قطن او حرير، ولا نمتلك المعلومة الا عن طريق التعليم، اما عن طريق الله تعالى بتعليمه لأنبيائه، او عن طريق النقل من خلال المشاهدة، ولكن لحظة، هل تكلمنا عن يوسف ع وعن قميصه؟
يقول تعالى عن لسان نبيه يوسف ع ((إذْهَبوا بقميصي هذا فألْقُوه على وجهِ أبي يأتِ بصيراً))، وكيف له ان يعلم الغيب ولا يعلمه الا الله تعالى؟ اين الإشارة الى تعليمه لهذا الغيب؟ وهل علم ذلك من خلال رؤيا المنام التي رءاها في صغره؟ وما موقف السماء من هذا الجزم بان اباه سيعود اليه البصر عند رميهم للقميص عليه، هل وبخ يوسف ع ام كانت السماء معه؟
يقول تعالى ((فَلمّا أن جاءَ البشيرُ ألقاهُ على وَجْههِ فارتدَّ بصيراً))، وهذا يعني بان يوسف ع كان يعلم الغيب او بعضه ليستطيع ان يجزم بكلامه، ولكن من اين جاء بهذا الغيب؟
لا شك ولا ريب بان الله تعالى هو من علم الانسان، ((علم الانسان ما لم يعلم))، هذه الحقيقة التي لا خلاف فيها، ولكن ما اقصده بعد ذلك، من علم الطبيب على الطب واجراء العمليات الجراحية؟ ومن علم المهندس على عمل الدوائر الالكترونية؟ بالطبع علمهم شخص اكتسب هذه العلوم من السابقين له، ومن التجارب والتطبيق العملي، فاجتمعت عندهم المعلومة والفكرة بالدراسة والمشاهدة، لذلك استطاعوا ان يتقدموا خطوة الى الامام.
نيوتن، العالم المعروف بنظرياته التي ساعدت في النهضة العلمية،
لو بعث ورجع للحياة وسار في شوارع مدننا، والتقى بطريقه بابن الهيثم واديسون، ومروا على شباب أحبوا ان يمازحوهم مزاحاً ثقيلاً، واعطوا كل واحد منهم سلكاً نحاسياً موصولاً بالكهرباء، وطلبوا منهم ان يمسكوه، فمن برأيكم سيمتنع عن ذلك، ولماذا؟
لو امتنع اديسون عن مسكه، فانه بالنسبة لنيوتن وابن الهيثم يعلم الغيب، نعم انه يعلم الغيب لأنه يرى الالكترونات وهي ترقص في داخل السلك النحاسي وتنتظر من يفتح لها الطريق للمرور عبره لتصعقه، انه يعلم الغيب لأنه يرى ما لا يرونه.
يقول تعالى ((لا يأتيكُما طَعامٌ تُرزَقانِه إلاّ نبّأتُكما بتأويلهِ قبلَ أن يأتيَكُما))، ((وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ))، وفي هذين الآيتين قولين أحدهما ليوسف ع والذي علمه من تأويل الرؤى والاحلام، والأخر لعيسى ع، ويظهر ان هذا العلم لا يقتصر فقط على الأنبياء، فنجد ذلك في قصة موسى ع مع الخضر، حيث كان الخضر لديه علم لا يعرفه موسى ع، وهذا ما دعاه الى الاعتراض المستمر بسبب عدم امتلاكه للعلم الغيبي الذي على أثره قام الخضر بما قام به.
في عرض البحر، يستمع البحارة الى الراديو، يقولون ان غداً ستحدث عاصفة في منطقة ابحارهم، واحد البحارة يقول لهم بئساً لكم، لا يعلم الغيب الا الله، نعم صح ما تقول، ولكن أيها المعترض ماذا تقول لو ربطناك بحبل وانزلناك الى سمك القرش؟ بالطبع سيقول ستأكلني القروش واموت، وكيف له ان يعلم ذلك وهذا من علم الغيب ولا يعلمه الا الله؟
خلاصة القول، هناك علوم تجريبية وتحليلية لمعلومات ومعطيات سابقة وحالية، تجعلنا نعلم ببعض ما سبق وأيضا بما هو حاصل وسيحصل في المستقبل، ولكن فرق علمنا الغيبي امام علم الله الشامل الكامل بالغيب لا مقياس له ولا مقارنة، فالنار تحرق، ولكنها لم تحرق إبراهيم ع، رغم ان المعطيات تقول غير ذلك، وكذلك ما حصل لقوم يونس ع من عدم نزول العذاب عليهم في اللحظة الأخيرة والحاسمة، ونفس الشيء معه ع عندما حكم عليه بالمؤبد في بطن الحوت، ولكن تغيير الأحوال مرتبط مع تغير الظروف، فإبراهيم ع متيقن بالنجاة، ولكن كيف تكون هذه النجاة؟ وهنا الفارق بين علم واخر.
وأوضح من ذلك ما حصل ليوسف ع، وعلم ابيه يعقوب ع بذلك،
ولكنه رغم ذلك لم تكن لديه القدرة على منع ما سيكون ويحصل، وهذا مما دعاه الى البكاء المستمر على فقده لابنه، فكان يعلم بان اخوته سيكيدون له، وهذا مبني حسب معطيات واقع الحال، ولكن لا يمكن الجزم به لأنهم ان تغيرت سريرتهم تغيرت معها نواياهم وافكارهم، وهذا هو علم الغيب الذي لا يعلمه الا الله.
وهذا ما نجده في سيرة نبينا الاكرم عليه واله أفضل الصلاة والسلام، حيث ابلغ ببعض الغيبيات، وما ستؤول اليه أحوال الامة، ولكن هذه الغيبيات موقوفة على أفعال الامة، وكما هو واضح في حثه في خطبة الوداع وخطبة الغدير حيث يقول ((…ما ان تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي ابدا…))، رابطاً بين التمسك او الوقوع في غياهب الضلالة، وهذا الاخبار الغيبي هو اخبار توقيفي على ما نحن نقوم به.
من بعد ذلك فان الحسين ع كان يعلم الغيب وفقاً للخطوط العريضة، كما كان ابوه علي ع حينما لم يعاقب ولم يقتل قاتله وهو يعلم بانه سيقتله في محرابه اثناء الصلاة، وهذا دليل على ايمانه ع بان هناك امل في ان يغير قاتله رأيه وان يتوب الى الله، فلم يشأ ان يكرر ما حصل ليونس ع، فعلم الغيب المطلق فقط عند الله، وما عند عباده ما هو الا قليل.
وكذلك فعل الحسين ع مع امة جده، كان على امل بان يستفيقوا وان يتراجعوا عن باطلهم، وان يحاربوا شهواتهم، لذلك أقدم إليهم باهل بيته، وارتدى ما كان لجده المصطفى وركب فرساً له، حاول بشتى الوسائل ان يبين لهم الحق ليتراجعوا، مع علمه بأنهم أعدوا العدة لغدره وقتله، الا انه كان ما زال يؤمن بان هنالك امل، وحتى اخر لحظة وهو يقدم اخر ما لديه، ويحمل للقوم طفله الرضيع، على امل ان يستفيقوا من نومتهم، ولكن الامل انقطع اخيراً، وأوصى اهله بعد ان ذبحوا ابنه وهو على يده من الوريد الى الوريد.
واليوم مع علمنا بان الإرهاب متربص بنا في كل مكان وزمان، وانه سيرسل الينا السيارات والاحزمة مع الانتحاريين لقتلنا، الا اننا نعيش امام هذا العلم فقط لأننا نمتلك الامل، ونؤمن بان الفرصة متاحة للتغيير، ولولا هذا الامل، لما كانت لدينا شرطة وعساكر واناس تقاتل دفاعاً عن بلدها وعرضها ومقدساتها، ولولا هذا الامل، لما وقف الابطال امام السيارات المفخخة، وهم يعلمون بانها ان وصلت إليهم لن تبقيهم في هذا الوجود.
وفي نهاية المقال أوجز التالي:
• علم الغيب المطلق لله تعالى.
• يعلِم الله الغيب لعباده الذين اصطفاهم والقادرين على حمل هذا النوع من العلوم المهمة.
• علم الغيب في جزئيته كسائر العلوم الأخرى فيه درجات ((وفوق كل ذي علمٍ عليم)).
• لا يمكن الايمان بالغيبيات بشكل مطلق وبلا جدال فيه مالم تأتي من الله تعالى، كالإيمان بالجنة والنار وغيرها.
• الغيبيات متغيرة مع تغير الظروف والإرادة، الا ما ختمه الله تعالى كعلم الساعة.
• الجزم بعلم الغيب دون امل وايمان بإمكانية حصول التغيير هو تحدٍ لله تعالى.
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد
0 الرد على "علم الغيب"
إرسال تعليق