قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا
الآية (123) من سورة طه تتحدث عن آدم عليه السلام، وكيف عصى أمر ربه واستزله الشيطان، وبعد ذلك يأمره الله تعالى أن يهبط إلى الأرض، وفي الآية نجد أن الخطاب كان بالمثنى (اهبطا) أي آدم وزوجته، ولكن عندما ترد الكلمة (جميعًا) فهذا يعني أن عدد الهابطين أكثر من اثنين، فيقول المفسرون: إن المقصود بذلك هو إبليس الذي شمل أيضًا بالاستبعاد والنزول من الجنة.
ولكن مع الاستمرار في سياق الآية الكريمة نجد (…بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ…)، وهنا تأكيد على أن الهبوط كان لأكثر من شخصين، ويقول المفسرون إن المقصود من ذلك هم ذرية آدم وذرية إبليس، وإلى هذه النقطة لا يوجد أي سؤال أو علامة تعجب، ولكن عند إكمال الآية نجد (…فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، وهنا نطرح السؤال:
الخطاب هنا لمن؟
إن كان لآدم وزوجته، فالموضوع طبيعي باعتبار أن الأنبياء والرسل والكتب كانت ترسل إلى البشر بغية هدايتهم، ولكن لا يوجد نبي أو رسول بعث من أجل هداية إبليس أو ذريته، وهذا يعني أن إبليس ليس مشمولًا بالهداية؛ لأنه محكوم عليه بالعذاب لا محالة، ووظيفته التي اختارها لنفسه أن يظل أبناء آدم وذريته من أجل إرضاء غروره الزائف وتكبره الأعمى.
فإذا استبعدنا شمول إبليس في الهداية فإن المخاطب بذلك سيكون آدم وزوجته، فلماذا يخاطبهما بصيغة الجمع لا المثنى، وبنفس الطريقة التي خاطبهما بها في أول الآية (اهبطا)؟
أعتقد أن هذه الآية تعطي بعدًا أكبر مما يتصوره الناس، فهي تشير إلى عدة وجوه:
الوجه الأول
المخالفة حصلت من آدم وزوجته في الوقت الذي كانا فيه في الجنة يتنعمان بخيراتها مع تحذير وحيد بعدم الاقتراب من الشجرة والأكل منها، فكان الخطاب لهما (اهبطا) لأنهما من خالف الأمر، ويحتمل من سياق الآية أن لآدم وهو في الجنة أبناء، ولما عصى الأمر عوقب بالهبوط مع زوجته وأبنائه فكانت كلمة (جميعًا) حاضرة.
الوجه الثاني
وما يقوي حجية الوجه الأول هو حصول ما أخبره تعالى لهم (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إذ إن هذه العداوة ليست بين الإنسان والشيطان لأن عداءهما حاصل منذ أن بث الله في جسد ادم الروح وأمر الملائكة بالسجود له، حيث عصى إبليس أمر الله واختار أن يكون عدوًا لآدم وذريته، فهي بذلك عداوة بين البشر أنفسهم وهو ما حصل بالفعل عندما قتل قابيل هابيل، بل أكثر من ذلك ما نراه من عداء واضح أنتج حروبًا أبادت الكثيرين من البشر لسبب أو بدون سبب، وما كان ليحصل ذلك إلا لوجود العداوة.
الوجه الثالث
هذا يعني أن آدم عليه السلام هبط مع كل عائلته، شاملًا ذلك زوجاته أبناءه، واللاتي هن من حوريات الجنة التي يبشر الله بهن عباده الصالحين، فإن كن زوجاتهم في الجنة فليس هناك مانع أن يكن زوجاتهم على الأرض، ولا يوجد ما يشير إلى عدم إمكانية ذلك أو استحالته، فالله قادر على كل شيء.
الوجه الرابع
وإثبات أن المشمول بهذه الآية المباركة هم آدم وذريته فقط قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126)، وهذا الخطاب لا يوجه إلى إبليس وذريته، وهو أيضًا لا يستحق هذه الفرصة.
لماذا نطرح مثل هذه الأسئلة ونخوض في مثل هذه الموضوعات؟
من واجبنا ونحن نؤمن بالله أن نتفكر في آياته، وأن نحللها، وأن لا نبقي أنفسنا مربوطين إلى شاخص لا يتحرك، بل علينا أن نناقش الآيات الكريمة بموضوعية، وبما لا يخالف الضوابط الأساسية، وأن لا نتجاوز الخطوط، أو نجعل مناقشاتنا مبنية على أساس التسقيط والسخرية والعشوائية في الطرح.
لا أجد ضررًا عندما أتفكر في كلام الله تعالى، وهو يخاطبني بلسان عربي مبين عن طريق كتابه الكريم، ولا ضرر في أن ألجأ إلى تفسير الآيات بآيات أخرى، فالقرآن يفسر نفسه، ولا ضرر أن أبحر بسفينة التدبر باحثًا عن الأجوبة، لا سيما تلك التي تخص بداية الخليقة، وكيف انتشرت البشرية وازداد عددها.
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد