سنبلة وحبة تمر
المزرعة البسيطة
مرت عشرة أيام، ولم يأتي المزارع لرؤية حبيباته، سنابل القمح الذهبية، والتي كانت تحيطها بعض الشجيرات المعمرة، ونخلة تتوسط تلك المزرعة البسيطة، مرت الأيام العشرة وسنابل القمح لم تتذوق طعم الماء، كانت السنابل لا تستطيع رؤية بيت حبيبها الغائب، وكل ما كانت تستطيع فعله هو النظر الى تلك النخلة، عسى ان تناديه ليحضر لإنقاذهم من الهلاك.
وفي اليوم السابع عشر، سقطت على النخلة لعنة من اللا مكان، أحرقت جذعها الرشيق، وسعفها المتدلي كأنها شعر بنتٍ جنوبية، قد غيرت لونه القاتم لمعة الحناء باحمرارها الهادئ، وهكذا مالت بين اخواتها السنابل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، حينها لم تستطع السنابل الهرب، وكانت الريح تحرك جسمها الهزيل يميناً وشمالاً، حتى أصابها ما أصاب النخلة، فكانت النار على موعدٍ لأكل تلك المسكينات الحزينات، كانت على موعدٍ لزهق ارواحهن دونما رحمة.
انتهت صولة الفك المفترس، ولم يتبق سوى منظرٍ مؤلم، حيث السواد عم تلك الأرض، ومن بين كل الحطام، وجدت سنبلة نفسها عند باب المزارع، وكانت جنبها حبة تمر استقرت عند رأسه، ونظرت التمرة الى اختها السنبلة ثم قالت:
“تعالي معي واذرفي فوق هامته كل الدقيق، لنبكي عليه بكاء الخرساء، ولنندبه مع سنابل القمح الاخريات، بصمت، حتى لا تعرف بحالنا الطيور المهاجرة، فتحيطنا اجنحة الشامتين، وتستطعمنا مناقير الموت المحتم”
والسنبلة تعاين حبيبهم الوفي، وهو مرمي بجوار محراثه اليدوي، ودمه قد شق الطريق الى الميزاب، كدجلة والفرات، او كنهر النيل الخالد، متمدد في وسط الفناء، وقد جمدت كل أعضائه جميعاً، وكل هذا المنظر الرهيب، لم يزل فاتحاً عينيه للحياة، وابتسامة الرضا على وجهه، كأنها مسلة الخلود.
وذهبت الأيام، وهذه القصة تتواتر بين الأجيال، من سنبلة الى أخرى، ومن حبة تمر الى حبة تمر أخرى، حتى دخل شابٌ بين سنابل القمح الخجولة، وهو يرتدي لبس المقاتلين، ويحمل في يده سلاح، ووقف عند نخلة توسطت تلك السنابل، وظل ينظر الى حبات التمر المعلقة، ولمعت احداها، وهو مازالت عيناه لم تتحركا، فكان لا يرى الا هذه الحبة.
السنابل تعيد الذكريات
“ان اجدادنا تكلموا عن مزارع، كان وسيماً، وفي خده شامة، وعلى يده علامة، ولحيته كشلال من عسل، وهو يجيد السكوت”
وحبات التمر تتمرد على نخلتها الباسقة، فتسقط الواحدة تلو الأخرى عسى ان يحملها هذا الوسيم، لعلها تتعرف عليه، فكلهن ينظرن اليه، ووسط هذا الهرج والمرج، نطقت حبة التمر، وهذا هو الفصل
“انه هو حفيد المزارع، انه حفيد المزارع، جاء يكمل دور ابائه، سيحمينا من اللعنات والآفات، فيا ايتها السنبلات، تمايلن له ورحبن به، ويا حبات التمر، ارمين بأنفسكن تحت اقدامه، واجعلنه يبتسم”
نزلن وتراقصن، على نغمات الريح وصفيره الممزوج بلحن الوداع، وهن يغنين انشودة الحب الضائع، وهو شاردٌ بباله الى افقٍ بعيد، حتى ارتخت قدماه ويداه، فوضع السلاح من يده، وجلس القرفصاء، واخذ يحمل تراب الأرض ويتحسسه، وكأنه يداعب يدي فتاة أحلامه مرتديةً زي العروس، اخذ يمسح السنبلة المتدلية الى عنقه، كيتيمٍ تركته الحرب يعيش وقد اخذت منه ابويه، وبيده الأخرى يحمل حبة التمر الناعمة، ويشمها رغم رائحة البارود، وقلبه تناغم مع صفير الريح، يدق بتناغمٍ مثالي، لقد عاد الحفيد بعد ان أدى واجبه المقدس، مودعاً حبيبته الوداع الأخير، فهو يشعر بالسلام.
أدوات الحقل، والمحاريث، والبئر المعطلة، ومجاري الأنهار، ومضخة الماء، كلها عادت الى الحياة، وهي تسمع صوت الأطفال يركضون باتجاه هذا المقاتل، وهم يصرخون
“بابا، بابا، هل سنعيش هنا في ارض جدي؟”
كانت اجابته، هي الممحاة التي مسحت كل الماضي الحزين، نعمه كانت مفتاح المستقبل المشرق، هكذا عاش المجاهد وهكذا سيكمل حياته المزارع في ارضه السعيدة المباركة الطيبة.
والحمد لله رب العالمين
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد