الأفعال والأفكار
القرآن هو الكتاب المتفق عليه كدستور ومصدر للتشريع بين جميع المسلمين، وهو أحد الثقلين اللذين تركهما الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا ومن أجل أن يكتمل إيمان المسلم فعليه أن يعتقد بأن آيات القران الكريم لا يحدها زمان أو مكان، وهي لا تتعطل ولا تتوقف، وإلا فإنها تصبح بلا فائدة، وما أن تصبح كذلك فإن القرآن يفقد حجمه وأهميته.
في القرآن يذكر الله تعالى قصة بني إسرائيل ويخاطب اليهود في سور وآيات كثيرة، وبعض هذه الآيات الكريمة يتوجه بها بالمحاسبة وتحميلهم لأفعال ارتكبها الأجداد لا الأحفاد، وقد فصلت بينهم آلاف السنين كقوله تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)، فالله تعالى في هذه الآيات يتكلم عن أهل الكتاب الذين هم يعاصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يسألونه عن تنزيل كتاب من السماء كحجة ودليل، ولكن رد هذه الحجة كان بأن الله رفض طلبهم لأنهم طلبوا من موسى عليه السلام أكبر من ذلك! وهل يعقل أن من سئل موسى عليه السلام ما زال على قيد الحياة وهو حاليًا يسأل نبي الإسلام؟
والآن لننظر إلى هذه النماذج من الآيات القرآنية: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين.
نلاحظ أن الكلام موجه إلى جيل يعيش مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحملهم مسؤولية قتل الأنبياء، وقتل من يأمر بالقسط من الناس، وهو يسألهم مباشرةً عن سبب ارتكابهم لهذه الجريمة والتي لم تحدث في ساعتها، بل حدثت (مِن قَبْلُ)، وقد جاءت الأفعال بالزمن المضارع كما هو واضح، وكأنهم قد فعلوا ذلك الساعة، وهل تعلم أن الفارق الزمني بين عيسى عليه السلام وبين نبينا الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قرابة 610 سنة وأن بينه وبين موسى عليه السلام قرابة ألفي سنة، وأن بيننا وبين موسى عليه السلام قرابة 4018 سنة وبعد كل هذه السنين حيث مات من قتل الأنبياء والمصلحين وصاروا ترابًا، وجاءت بعدهم أقوام وأقوام، وبعد كل هذه المدة الطويلة مازال الله يذكر جرائم الأجداد ويحمّل الأحفاد مسؤوليتها، ويسألهم عنها إلى يومنا هذا، فلماذا برأيك أيها القارئ هذا التأكيد من الله تعالى على ذلك في كتابه الذي ألزمنا بالسير على منهاجه؟
نتعلم من ذلك أن الله تعالى العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وحاشاه من الظلم، يريد منا أن نميز بين الشخص بذاته وبين أفعاله، حيث إن الشخص يموت وينتهي ويندثر، ولكن أفعاله هي ما تبقى، وهذه الأفعال إن وجدت المقبولية والاستحسان والمناصرة فهي تعتبر حيّة ويعتبر حاملها كفاعلها في الدرجة والمضمون، فقتل الأنبياء كفعل حينما لاقى استحسانًا من أهل الكتاب صيرهم شركاء في ذلك الفعل، مبينًا أنهم على استعداد تام لأن يعيدوا الكرة مع أي نبي أو مصلح لا تلتقي مصالحهم مع كلامه وتوجهاته، ولذلك العتاب من الله قائم ومستمر، ومطالبته بالإجابة من هؤلاء مستمرة، وتوبيخه لهم لم ينقطع لهذا اليوم ولهذه اللحظة ما دمنا نتلوا آيات القرآن، ومن واجبنا أن نقف مع هذه الآيات، وأن نوجه سؤالنا باستمرار لكل من يسير على نهج باطل، ونعاتبه ونعنفه كما يعلمنا الله تعالى.
من يظن أن الأفعال تنحصر بالأشخاص فهو مخطئ تمامًا، الأفعال ترتبط بالأفكار، فمن يعتقد بصواب فعل عاقر ناقة صالح عليه السلام فهو كعاقرها، ومن يعتقد بصواب من آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو كمن آذاه، ومن لم يعترض على أفعال هؤلاء فهو مناصرهم على الباطل، ومشجعهم على فعل هذه الجرائم، ففرعون مصر ليس شخصًا بذاته فقط، بل هو كل من تزعم قومه وبطش بالناس واستضعفهم وتكبر عليهم وعلا في الأرض فهو فرعون أيضًا وإن كانت بينه وبين الفرعون ملايين السنين، وأيّما مصلح خرج ناصحًا أهله وقومه وسفكت دماؤه في محراب الحق وفي طريق الحرية، فهو كالأنبياء والآمرين بالقسط من الناس والذين لاقوا حتفهم مظلومين في سبيل الله تعالى، استذكارهم هو لقبول فعالهم الحسنة، وتمجيدًا لهم لمقارعتهم الظلم والاستبداد ورفضهم الخضوع والخنوع وركوب مطية الهوان والذل.
يجب أن نستذكر الصالحين وأن نتكلم عن مظلوميتهم، ونواسيهم ونظهر ذلك كما فعل يعقوب عليه السلام في مواساة مصيبة ابنه يوسف عليه السلام، وأن نوبخ الظالمين والقتلة ونتكلم عن جرائمهم، فنلعن قوم هود وصالح وغيرهم، متّبعين نهج القرآن الكريم، متعلمين منه منهاج الاحتجاج بالحق ضد الباطل، لا أن نكون كالذين يتوسلون أسيادهم يوم القيامة، بعد أن اتبعوهم على العمى والضلال، سائرين على منهاج زائف يقولون فيه: إن (الناس على دين ملوكهم)، فبئس الدين والمنهج حينما يصفهم الله بالمستضعفين الخانعين لأهواء وأوامر كبرائهم من المستكبرين في قوله تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ).
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد