لا تعلّق املك في هرّ
طفولة قاسية
شبَّ الولد وهو ما زال يتلقى التوبيخ يومياً من امه وابيه، ولم يعد يأبه للضرب والاهانة، لم يعجبه ان يكون حسن السيرة، بل كان كثير الحركة وشقي الى ابعد حد يمكن تصوره، اذاه تعدى بيته وأهله، بل وصل الى القرى الأخرى.
اعتاد ان يكمن للتجار والمسافرين العابرين بقريته للتسوق واخذ المؤنة، او الذين يبيتون اياماً بانتظار تحسّن الطقس ليكملوا مسيرتهم الطويلة، كان يسرقهم او يحرق حاجاتهم، ويمزق ملابسهم، ويتلف طعامهم وشرابهم، حتى انهم عرفوه من اسمه وسمعته، قبل ان يعرفوه على حقيقته.
كان اهل قريته يعفون عنه لأنه صغير وطائش، ولكنه لم يعد كذلك، فهو الآن كامل الاهلية، ولهذا أصبحوا يضيّقون عليه حتى حكموا عليه بالسجن، الا انه فرَ منهم وصعد الى اعلى الجبل، وهناك كانت القرية تبدو له بحجم الكف، وفي الليل كانت تجعل الوادي جميلاً، بمشاعل النار في طرقاتها المتعرجة.
شعر بالوحدة، كان يحاول ان يبعد تفكيره عن الشعور بالذنب، فوجد هرّاً صغيراً يمشي بين صخور الجبل الكبيرة، فالتقطه سريعاً، ورغم المقاومة الا انه لم يفلته، ومن لحظتها اعتبره امله وصديقه الذي لن يوبّخه ابداً، ومع صعوبة العيش على الجبل، الا انه كان مستأنساً بهرّه الصغير.
كان يلعب ويشارك الهرّ طعامه ومكان نومه، وهذا التعلق الكبير الذي حصل جعله يعود عن محاولته للندم على ما فعله في الماضي، فعاد الى ما كان عليه، ينزل الى القرية ويباغت حراسها، او يزحف بخفّة الى داخل اسوارها، ويعيث فيها فساداً، ومن بعد ذلك يهرب الى الجبل.
لكن قبل ذلك، لم نعلم من اين كان يأتي بالطعام والشراب ليستطيع العيش! في جبلٍ عالٍ لم يكن هناك من طعامٍ او زرعٍ او عينِ ماءٍ، لم يكن هناك لا فراش ولا غطاء ليقيهِ من برد الجبل الجاف، فكيف استطاع البقاء هناك طيلة تلك الفترة؟
عندما هرب كانت له آمال في امه، حيث لن تتركه في مثل حالته، وكذلك كان امله معلقاً بابيه، لأنه سيوصل الطعام والملابس اليه، ولو الى حدٍ قريبٍ من حافة الجبل، هكذا كان امله باهله بأنهم لن يخذلوه، لأنه يعلم في قرارة نفسه بأنهم يحبونه، وانه كان مسيئاً لهم وللآخرين.
مع كلِّ ذلك العطف الذي لاقاه من اهله، لكنه وبمجرد ان وجد هراً تائهاً، علّق امله به، ونسي كل الخير، او تناساه، وركّز على جانبٍ واحدٍ من حياته، ليُشعِرَ نفسه بانه مظلوم، وعليه ان ينتقم منهم، ورغم ان هرّه لا يجيد التكلم، ولا يجيد جلب الطعام ولا حتى المساعدة في انجاز المهام، ولكنه كان امل الشاب الهارب.
تلاشي الأمل لدى الشاب
مطرت في ذلك الأسبوع كثيراً، ولكن في صباح يومٍ مظلم، حيث اجتمعت الغيوم وتكالبت على اشعة الشمس، ورمت بحملها الثقيل، وأعلنت عن غضبها بقوة، حتى امتلأ الوادي بالماء، وغرقت القرية، لم ينجو منها الا القليل، هربوا بعيداً الى قرى أخرى، ولم يبقى من القرية الّا الاطلال.
حينها كان الشاب جالساً على حافة الجبل، وهو يتفرج ويضحك، يتشمت باهله وقريته، يتكلم مع هرّه الخائف من صوت الرعد، ويمسح على رأسه تارة، ويشير اليه الى مناظر الدمار تارةً أخرى، كان الهرّ يهلع مع كل رعد وبرق، وكان الشاب يفرح حينما تضاء السماء، ليستطيع التفرج على ما يصيب اهله وقريته المنكوبة.
بعد أيام، لم يعد يجد له طعام، حيث لا قرية ولا اهل، وكان يبحث في اكوام الخربات، عن بقايا الاكل، وعندما عاد الى الجبل، وكان يحمل ما وجده من كسّار خبز، وشيءٍ من الخضراوات العفنة، لم يجد الهرّ، بحث عنه طيلة اليوم ولم يعثر عليه، الهرّ الجائع، لم يعد قادراً على الاستمرار في هذه الحياة الصعبة، لذلك قرر الرحيل.
وقف الشاب حينها، ينظر الى قريته، وينظر الى نفسه، وينظر الى امله الذي ذهب مع الهرّ، لم تعد هناك أي مشاعر واحاسيس تستطيع ان تترجم ما يفكر به، أصبح حينها فارغاً كعجلِ السامري، جسداً يخور، ظلّ واقفاً مدةً طويلةً، حتى أغشي عليه من التعب.
فكّر في ان يرحل الى احدى القرى القريبة، وبالفعل فعل ذلك، ولكنه وبمجرد ان يصل الى بوابة أيّ قرية يلاقى بالشتائم والطرد والرجم بالحجارة، انهم لا يذكرون منه الا كلّ شر، فلم يترك في قلوبهم الّا الألم والكره، لم يتأثروا بما آل اليه مصيره، ولم يحزنهم شكله ومظهره الذي يشبه المجنون، بملابسه الرثّة، وشعره الطويل العث، ورائحته النتنة.
وبعد ان يأس من الحياة، ومن المساعدة، وفقد قدرته على السير والتحرك، وقفت على رأسه امرأة تحمل ماءً وطعاماً، وقد جلبت له بعض الملابس والاغطية، وساعدته على الاكل والشرب، وقبل ان ترحل عنه، سألها “يا سيدتي، لماذا ساعدتني رغم أنّي شقي ولم اعمل خيراً في حياتي؟”
فأجابته “هكذا اوصتني أمك قبل ان تموت، إذا رأيتهِ منكسراً ومطروداً ولم يستقبله أحد، كوني له اماً، واهتمي به لأجلي”.
ندم حيث لا ينفع الندم، وغص في حسرته طويلاً، ولما عادت تلك المرأة لم تجده، ذهب ولم يُعرف عنه أي شيء بعدها ابداً، اختفى ببساطة، والوحدة والندم يأكل عقله كالأرضة.
لا تفقد الفرصة بالتسامح، لا تنسى المعروف، لا تعلّق املك في هرّ.
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد