كانت أمنيته بسيطة
بعد عام 2003 وتحديداً بعد سقوط نظام البعث الدكتاتوري ودخول الجيش الأمريكي وحلفاؤه إلى العراق، كان الشارع نوعاً ما فارغ حيث لا يوجد جيش أو شرطة أو قوى أمنية أو دوائر نظامية تدير البلد، ومع هذا الانفتاح غير المعهود كانت هناك حاجة إلى وجود صحفيين يؤدون واجب نقل الأخبار، فكنت في تلك الفترة أعمل صحفياً من باب الواجب الشرعي الذي يملي علينا ملء الفراغ.
دموع الشيخ العجوز وألم الفقد وتفطّر الروح
وفي أحد الأيام سمعت أن هناك مقبرة جماعية لضحايا الإعدامات الخفية التي كان يقوم بها نظام البعث، فتوجهت إليها، و كنت أتوجه إلى مكان تلك المقابر لأنقل الخبر كما أراه، وفي كل مرة كنت أصادف شيخاً كبيراً كان يلبس (دشداشة) رثة نوعاً ما، ويضع على رأسه قلنسوة (عرقجين) وغترة (يشماغ) كان في يكرر نفس الفعل بعد انتهاء مجاميع الهلال الأحمر من النداء بأسماء الضحايا، ينزع عن رأسه غترته ويمسح بها بعض دموعه، وهو يسحب نفساً عميقاً ويخرجه بحسرة وألم، وعينيه تدور حول الذين وجدوا أحبتهم أو بقايا أحبتهم.
وفي إحدى المرات توجهت إليه لأواسيه وأعرف عمن يبحث، فعلمت بأن له ولد مفقود، من خمسة أبناء، كلهم دفنهم بيديه، إلا هذا الولد، والذي كان أصغرهم، إنه طفله المدلل، وآخر العنقود كما يقال، وهو يعلم بأنه قد قتل ولكنه يريد أن يدفنه إلى جنب أخوته، أمنية بسيطة جداً، قضى سنين طويلة وهو ينتظر أن تتحقق، وكان يغبط أولئك الذين يجدون بقايا أبنائهم.
العجوز يلملم شتات عائلته الأخير إنه ابنه الشهيد
بعد ذلك عرفت بأنه وحيد، فحتى زوجته ماتت من الحزن والألم، ولم يتبق من عائلته إلا هو، يبحث عن آخر أبنائه ليغفو بعدها مستريحاً إلى جنب عائلته التي اختطفت من بين يديه، حتى جاء اليوم الذي سمع اسم ابنه ينادى به، توجه نحو بقايا عظام ابنه والتي اختلطت مع أبناء الاخرين، فحمل جمجمة ابنه، ومازالت عصابة العين موجودة يعلوها ثقب في جمجمته ومن الطرف الآخر كان الثقب أكبر، وبقي بلا حراك، فقط ينظر إلى جمجمة ابنه، وبعد دقائق من الصمت، حمل من الأرض أوراقه التعريفية (هوية الأحوال المدنية)
وآثار الدم متجمدة عليها، ومن بعدها انهار من البكاء، ولم لا ينهار؟ إن كانت آخر امنياته تتحقق، وقد مد الله في عمره ليحتضن جمجمة ابنه المفقود، ويشمه ويقرأ على رأسه رثاء الثكلى، وباللهجة العراقية الجنوبية، حيث مع كلماته تشعر أن الصخر والتراب الذي احتضن ابنه كل هذه الأعوام، وتلك الرصاصة التي اخترقت رأسه ساعة إعدامه، كلهم يبكون بحرقة ويذوبون مع كل حسرة من حسراته.
كيف بدأ يرثي العجوز ابنه آخر فقيد لقلبه؟
بالرغم من كل هذه الأهوال إلا أنه لم ينسى ما أصاب أهل بيت النبوة في كربلاء، وهو يردد ويقول:
“أنا ردتك ما ردت دنيا ولا مال… تحضرني لو وگع حملي ولا مال… يا جاسم خابت ظنوني والآمال… يا بني وقت الظيم اگطعت بيَّه”
لمن لا يعرف اللهجة العراقية الجنوبية، فهو يقول بأنه أراده ولم يرد الدنيا ولا أموالها، أراده ليحضر عنده ساعة كبر سنه وحاجته إلى المعونة والسند، وجاسم المقصود به القاسم ابن الإمام الحسن ابن علي، وهو يخاطبه بالاستعارة، بأن كل ما خطط له وتأمله ذهب عندما جاءت الساعة ووقت الحاجة إلى معونته كان الولد قد فارق الحياة ولم يتبق منه سوى كومة من العظام.
لا نعلم أنبكي الوطن أم نبكي المواطن؟!!
هناك آباء وأمهات كانوا حاضرين أيضاً، نسوا همومهم وأحزانهم، واقتربوا منه يواسونه فيما أصابه وأعينهم تنهمل بالدموع، ثم تفرقوا وهموا بإكمال الإجراءات الإدارية، ومن ثم توجهوا إلى مقبرة وادي السلام في محافظة النجف ليواروا ما تبقى من أبنائهم الثرى، ويضعوا على قبورهم شواهد تحمل أسمائهم وتاريخ وفاتهم، وهذا آخر عهدي بهذا الرجل، ولا أدرى ان كانت عنده أمنية ثانية بسيطة لم تتحقق بعد، ولكني متيقن بأنه استطاع أن يغفو تلك الليلة بقلب لا أعرف إن كان ما زال حزيناً أم أصبح سعيداً، ولكنه غفى لا كما كان يغفو في سنين انتظاره القاسية.
سلامٌ إلى كل نفسٍ أزهقت ظلماً وعدواناً، وسلامٌ الى كل قلب أمٍ وأبٍ تفتت حزناً على فراق أبنائهم، والخلود لجميع شهداء العراق، وصبر الله أهالي المفقودين، والحمد لله رب العالمين.
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد
0 الرد على "كانت أمنيته بسيطة"
إرسال تعليق